اِسْمَحُوا لِي أُمَزِّقُ سِتارَ التَّاريخِ بِأَظافِرِي! غَزَّةُ مَسْرَحٌ.. وَالمَأساةُ تُعادُ، لَكِنَّ البَطَلَ هذِهِ المَرَّةَ لَيسَ فَرْداً يَبْكِي، بَلْ مِصْرَ تَنْهَضُ! تَتَحَرَّكُ بِضَميرٍ يُناطِحُ سَبْعِينَ عاماً.. مُنْذُ 1948، حِينَ وُلِدَ الدَّمُ الفِلَسْطِينِيُّ عَلى أَعْتابِنا.. كُنَّا هُنَاكَ: حارِساً لِلْحُدودِ لا يُهادِنُ، شاهِداً عَلَى الرِّباطِ المَصيرِيِّ الَّذي لا يَنْفَصِمُ بَيْنَ النِّيلِ وَالأَرْضِ المُقَدَّسَةِ، جاراً يَرْفُضُ أَنْ يَنامَ وَالجُرْحُ يَنْزِفُ! فَلْتُعْلِمِ الدُّنْيا: هَذا لَيسَ شِعاراً.. بَلْ هُوَ سِفْرُ الدَّمِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ النِّيلِ وَفِلَسْطِينَ!
لَمْ تَكُنْ هذِهِ العَلاقَةُ حِبْرًا في مُعاهَداتٍ، بَلْ دِمَاءً مُتَبادَلَةً في الحُروبِ، وَدُمُوعًا مُشْتَرَكَةً في المُصَالَحَةِ، وَحِنْكَةً دَبْلوماسِيَّةً تُطْفِئُ نِيرَانَ العَدَاواتِ.. ثُمَّ جَاءَ زِلْزَالُ أُكْتُوبَرَ 2023، فَإِذَا بِالِاخْتِبَارِ الوُجُودِيِّ يُعْلِنُ عَنْ نَفْسِهِ:
هَلْ تَتَحَوَّلُ ذَاكِرَةُ الخِبْرَةِ إِلَى فِعْلٍ؟ أَمْ تَذْوِي العَقِيدَةُ تَحْتَ وَطْأَةِ الرَّصَاصِ؟
الرُّوحُ قَبْلَ الجَسَدِ!
لَمْ تَكُنِ المَواقِفُ السِّياسِيَّةُ الحازِمَةُ كافِيَةً وَحْدَها لِمُواجَهَةِ الزِّلْزالِ.. لَقَدْ رَأَتْ مِصْرُ بِأُمِّ عَيْنِها – وَكَأَنَّها في مَسْرَحِيَّتِها التَّراجيدِيَّةِ – كَيْفَ تَتَحَوَّلُ غَزَّةُ إِلى جَحِيمٍ إِنْسَانِيٍّ خانِقٍ.. فَانْقَلَبَتِ الدِّبْلوماسِيَّةُ إِلى مَعْرَكَةِ إِغاثَةٍ، وَتَحَوَّلَتِ القَناعاتُ إِلى قَوافِلَ.. مَعْبَرُ رَفَحَ، ذلِكَ الشِّرْيانُ الواهِنُ بَيْنَ الحَياةِ وَالمَوْتِ، صارَ جِسْرًا لِلرَّحْمَةِ.
أَرْقامٌ.. قِصَّةُ الصُّمُودِ
• «130 أَلْفَ طُنٍّ» «حَياةٌ» عَبَرَتْ عَلى ظُهُورِ «7 آلافِ شاحِنَةٍ»:
خُبْزٌ يُطْفِئُ جُوعًا بِوَزْنِ «23.453 طُنًّا»،
وَمَاءٌ يُنْعِشُ عَطَشًا بِوَزْنِ «26.692 طُنًّا»،
ودَوَاءٌ يُدَاوِي جُرْحًا بِوَزْنِ «19.952 طُنًّا».
• «123 سَيَّارَةَ إِسْعافٍ» – كَأَنَّها أَيْدِي مِصْرَ المَمْدُودَةُ بالخير– تَنْقُلُ أَنْفَاسًا تُوشِكُ أَنْ تَنْقَطِعَ.
• «582 طَائِرَةً إِغَاثِيَّةً» تُحَلِّقُ فَوْقَ سُحُبِ الحَرْبِ، كَحَمَامٍ حَامِلِ غُصْنِ زَيْتُونٍ.
وَفِي مُسْتَشْفَيَاتِ مِصْرَ، لَمْ تَكُنِ الْأَسِرَّةُ مُجَرَّدَ أَسِرَّةٍ، بَلْ جُزُرُ أَمَانٍ فِي بَحْرِ الْأَلَمِ: «103400» رُوحًا فِلَسْطِينِيَّةً اسْتَعَادَتْ نَبْضَهَا هُنَا، بَيْنَهَا:
«12300» طِفْلًا كُتِبَتْ لَهُمْ حَيَاةٌ ثَانِيَةٌ.
«164» مُسْتَشْفًى مَيْدَانِيًّا تَحَوَّلَتْ إِلَى وَاحَاتٍ لِلشِّفَاءِ تَضُمُّ: «1656» سَرِيرًا لِلْكِبَارِ، وَ«193» سَرِيرًا لِضَحَايَا الْحُرُوقِ، وَ«867» حَاضِنَةً تُدَفِّئُ أَطْفَالًا مِنْ تَحْتِ الرَّكَامِ.
هي أرقامٌ صادقةٌ – كأسنانِ المشطِ – رَصَّدَتْها عينُ الحقيقةِ يومَ الخميسِ الرابعِ من أبريلَ 2024 على شاشةِ ‘القاهرةِ’ الإخبارية، وفي موقع ‘اليومِ السابعِ’ تُدوِّنُ.. فهل تطلبونَ شهوداً غيرَ وَثائقِ الزمنِ؟!” .. فالتاريخُ لا يَروي الحكاياتِ فحسب.. بل يَحملُ دفاترَ الإثباتِ في جيوبِه! فويلٌ لمَن يُنكرُ شهادةَ الورقِ المُوثَّقِ!”
العَوَاصِفُ تُحَاصِرُ الرَّحْمَةَ
لَكِنْ أَيَّةُ مَلْحَمَةٍ بِلا عَوَاصِفَ؟ لَقَدْ وَاجَهَتِ السَّفِينَةُ المِصْرِيَّةُ أَمْوَاجًا عَاتِيَةً:
• عَاصِفَةٌ خَارِجِيَّةٌ: ضُغُوطٌ كَالْجِبَالِ لِـ«تَهْجِيرِ الفِلَسْطِينِيِّينَ» – تِلْكَ الفِكْرَةُ الَّتِي تَتَنَكَّرُ لِإِنْسَانِيَّتِنَا جَمِيعًا. وَقَصْفٌ إِسْرَائِيلِيٌّ مُتَعَمَّدٌ لِمَعْبَرِ رَفَحَ، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَطْعَ شِرْيَانِ الحَيَاةِ الآخِرِ.
• عَاصِفَةٌ دَاخِلِيَّةٌ: انْقِسَامٌ فِلَسْطِينِيٌّ يُحَوِّلُ المُعَانَاةَ إِلَى سَاحَةِ صِرَاعٍ ثَانَوِيٍّ.
• عَاصِفَةٌ لُوجِسْتِيَّةٌ: صُعُوبَةٌ مُرِيرَةٌ فِي إِيصَالِ الخُبْزِ وَالدَّوَاءِ إِلَى شَمَالِ غَزَّةَ، حَيْثُ المَوْتُ يَسْبِقُ القَافِلَةَ.
البُوصَلَةُ الَّتِي لَا تَنْكَسِرُ
فِي قَلْبِ هَذِهِ العَوَاصِفِ، ظَلَّتْ عَقِيدَةُ مِصْرَ ثَابِتَةً كَالْهَرَمِ:
رَفْضُ التَّهْجِيرِ لَيْسَ كَلِمَةً، بَلْ هُوَ حَجَرُ الأَسَاسِ فِي كِيَانِنَا.
وَحَلُّ الدَّوْلَتَيْنِ عَلَى حُدُودِ 1967 لَيْسَ خِيَارًا، بَلْ هُوَ العَدَالَةُ المُتَجَسِّدَةُ.
وَحْدَةُ الصَّفِّ الفِلَسْطِينِيِّ لَيْسَتْ تَرَفًا، بَلْ شَرْطٌ لِبَقَاءِ القَضِيَّةِ.
وَأَمْنُ غَزَّةَ؟ إِنَّهُ جِدَارٌ فِي حِصْنِ أَمْنِنَا القَوْمِيِّ، لَا نَقْبَلُ تَصَدُّعَهُ.
عَلَى أَرْضِ الوَاقِعِ حَوَّلَتْ مِصْرُ هَذِهِ العَقِيدَةَ إِلَى نَمُوذَجٍ عَمَلِيٍّ يُذْهِلُ العَالَمَ:
• جِيُوسِيَاسِيًّا: جَعَلَتْ مِنْ رَفَحَ – رَغْمَ القَصْفِ – شِرْيَانًا يَنْبِضُ بِالحَيَاةِ.
• إِنْسَانِيًّا: حَوَّلَتْ مُسْتَشْفَيَاتِهَا إِلَى مَآوٍ لِلْجَرْحَى، كَأَنَّهَا تَقُولُ: «حُدُودُ الوَطَنِ تَمْتَدُّ حَيْثُ يُوجَدُ أَلَمٌ يُخَفَّفُ.»
• دِبْلُومَاسِيًّا: صَانَتِ الشَّرْعِيَّةَ الدَّوْلِيَّةَ بِرَفْضِ الحُلُولِ المَسْمُومَةِ، وَرَفَعَتْ صَوْتَ الحَقِّ فِي أَرْوِقَةِ العَالَمِ الصُّمِّ.
خَيْطُ النُّورِ فِي لُعْبَةِ الظَّلَامِ
اِسْمَحُوا لِي أَقُولُ كَلِمَتِي أَمَامَ اللهِ وَبِضَمِيرِ إِنْسَانٍ وَطَنِيٍّ حُرٍّ.. فِي قَلْبِ الزَّمَنِ، حَيْثُ تَتَشَابَكُ خُيُوطُ النُّورِ وَالظَّلَامِ، تَقِفُ مِصْرُ كَمَنَارَةٍ لَا تَكِلُّ، تُمْسِكُ بِخَيْطِ النُّورِ فِي لُعْبَةِ الظَّلَامِ الَّتِي تُلْقِي بِهَا الأَيَّامُ.
وَفِي مَرْحَلَةِ مَا بَعْدَ السَّابِعِ مِنْ أُكْتُوبَرَ 2023، حِينَ اهْتَزَّتِ الأَرْضُ تَحْتَ وَطْأَةِ الصِّرَاعِ الفِلَسْطِينِيِّ، بَرَزَتِ الإِدَارَةُ السِّيَاسِيَّةُ المِصْرِيَّةُ كَقَائِدٍ حَكِيمٍ يَجْمَعُ بَيْنَ حَنَكَةِ التَّارِيخِ وَطُمُوحِ المُسْتَقْبَلِ.
وَبِبَرَاعَةٍ وَثَبَاتٍ، نَسَجَتْ مِصْرُ خُيُوطَ الوِسَاطَةِ، فَكَانَتْ جِسْرًا لِلسَّلَامِ فِي بَحْرٍ مُضْطَرِبٍ، وَصَوْتًا لِلْحَقِّ فِي زَمَنٍ طَغَتْ فِيهِ أَصْوَاتُ السُّيُوفِ. الأَجْهِزَةُ الأَمْنِيَّةُ، كَحُرَّاسٍ أَوْفِيَاءَ لِلْوَطَنِ، وَقَفَتْ كَالسَّدِّ المَنِيعِ، تَرْصُدُ الرِّيَاحَ وَتَحْمِي الشَّعْلَةَ مِنْ أَنْ تُطْفَأَ.
نَعَمْ.. بِتَضَافُرِ جُهُودِنَا، حَافَظَتْ مِصْرُ عَلَى دَوْرِهَا كَقَلْبٍ نَابِضٍ لِلْعُرُوبَةِ، تَمُدُّ يَدَ العَوْنِ وَتَرْفَعُ رَايَةَ العَدْلِ، فَكَانَتْ كَمَا أَرَادَهَا التَّارِيخُ دَائِمًا: أُمَّ الدُّنْيَا، تَحْمِلُ فِي صَدْرِهَا أَمَلَ فِلَسْطِينَ وَكَرَامَتَهَا، وَتُضِيءُ دُرُوبَ الأُمَّةِ بِنُورِ الحِكْمَةِ وَالصَّبْرِ.
رَسَائِلُ فِي زَمَنِ العَاصِفَةِ
أَيُّهَا الغَيْمُ المُثْقَلُ بِالصَّوَاعِقِ! أَتَرَى كَيْفَ تُرَقِّصُ الرِّيَاحُ دُمَى الخِيَانَةِ عَلَى خُيُوطِكَ؟
فَلْتُعْلِمِ الأَمْوَاجَ أَنَّ: شِرَاعَ مِصْرَ – وَلَوِ انْحَنَى تَحْتَ هَوْلِ العَاصِفَةِ – لَنْ يَحْمِلَ إِلَّا بُذُورَ الحَقِّ.. وَحَصَادَ الصُّمُودِ! .. وَرُغْمَ أَنَّ العَاصِفَةَ وَحْدَهَا تَكْشِفُ أَيُّ الأَشْرِعَةِ تُحْسِنُ الرَّقْصَ مَعَ الرِّيحِ.. وَأَيُّهَا يُمَزِّقُهُ رَقْصُ الخَوَنَةِ! وَلَكِنِ اِسْمَحُوا لِي بِرَسَائِلَ فِي زَمَنِ العَاصِفَةِ إِلَى:
الإِعْلَامِ المُعَادِي:
كَفَاكَ تَمْزِيقًا لِلْحَقَائِقِ! أَيُّهَا الظِّلُّ الَّذِي يُحَاوِلُ طَمْسَ الشَّمْسِ! هَلْ رَأَيْتَ كَيْفَ تُنْطِقُ الأَرْقَامُ بِأَعْلَى مِنْ صَرْخَاتِكَ؟
«130» أَلْفَ طَنٍّ مِنَ الحَيَاةِ عَبَرَتْ رَفَحَ، وَ«103» أَلْفَ جَرِيحٍ اسْتَعَادُوا نَبْضَهُمْ فِي أَحْضَانِ مِصْرَ، وَ«582» طَائِرَةً حَطَّمَتْ حِصَارَكَ المَزْعُومَ.. هَذِهِ لَيْسَتْ «رِوَايَاتٍ» بَلْ هِيَ الحَقَائِقُ الَّتِي تَدُوسُ أَكَاذِيبَكَ! .. فَلِمَ تَلْوِي عُنُقَ الصُّوَرِ؟
وَلِمَ تَصْبُغُ التَّضْحِيَةَ بِالشَّكِّ؟
نَقُولُ لَكَ بِبَسَاطَةٍ: «الشَّمْسُ لَا تُحْجَبُ بِغِرْبَالٍ، وَالمِهْنِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ تَنْحَنِيَ لِلْحَقِيقَةِ كَمَا تَنْحَنِي السُّنْبُلَةُ لِلرِّيَاحِ، لَا أَنْ تَقْطَعَ جُذُورَهَا!»
الإِعْلَامِ المُسَانِدِ:
أَنْتَ حَارِسُ البَوَّابَةِ.. فَانْظُرْ إِلَى الأُفُقِ! أَيُّهَا الصَّوْتُ الَّذِي يُنِيرُ الدَّرْبَ! نَعْرِفُ انْحِيَازَكَ، وَنُدْرِكُ نَبْضَ قَلْبِكَ الوَطَنِيَّ.. اِرْفَعْ سَقْفَ الفَهْمِ لِأَمْنِنَا القَوْمِيِّ، وَاغْرِفْ مِنْ بَحْرِ الاسْتِرَاتِيجِيَّاتِ، وَلَا تَكْتَفِ بِلَمْعَةِ المَوْجِ!
تَذَكَّرْ أَنَّ مَعْرَكَةَ الوَعْيِ تُخَاضُ بِالعَقْلِ قَبْلَ العَاطِفَةِ.
وَطَوِّرْ أَدَوَاتِكَ:
• فَالقَلَمُ الَّذِي لَا يَغُوصُ فِي أَعْمَاقِ الجُغْرَافِيَا وَالسِّيَاسَةِ، كَالطَّائِرِ الَّذِي يُحَاكِي التَّحْلِيقَ بِجَنَاحٍ وَاحِدٍ!
• وَالكَلِمَةُ الَّتِي لَا تُبْنَى عَلَى رُؤْيَةٍ شَامِلَةٍ، تُشْبِهُ زَرْعَ البُذُورِ فِي صَحْرَاءَ! .. كُنْ سَنَدًا لَا صَدًى.. لِيَكُونَ رَنِينُكَ أَعْمَقَ!
وَتَذَكَّرْ: لَا تَكْفِي النِّيَّاتُ الطَّيِّبَةُ لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ.. عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ سَبَّاحًا بَارِعًا يَحْسُبُ حَرَكَةَ الأَمْوَاجِ قَبْلَ القَفْزِ.
أَمَّا «الإِخْوَانْجِيَّةُ»:
اِنْزَعُوا أَقْنِعَةَ الأَفْعَى! يَا مَنْ تَلْبَسُونَ «عِبَاءَةَ الإِسْلَامِ» وَتُخْبِئُونَ سُمَّ الخِيَانَةِ فِي طَيَّاتِهَا!
أَتَعْرِفُونَ مَا قَالَهُ التَّارِيخُ؟!
«كُلُّ ظِلٍّ يَزُولُ إِلَّا ظِلَّ الخَائِنِ.. فَإِنَّهُ يَذُوبُ فِي ضَوْءِ الكَشْفِ»!
بِالْمُنَاسَبَةِ وَاقِعِيًّا.. فَضَحَ مَسْرَحُ غَزَّةَ أَلَاعِيبَكُمْ:
• فَأَنْتُمْ.. مَنْ يَتَنَفَّسُونَ عَلَى جَمْرِ الِانْقِسَامِ الفِلَسْطِينِيِّ!
• وَأَنْتُمْ.. مَنْ يُصَفِّقُونَ خَلْفَ السِّتَارِ لِاسْتِمْرَارِ نَزِيفِ الدَّمِ!
• وَأَنْتُمْ.. مَنْ يُحَوِّلُونَ «المُقَاوَمَةَ» إِلَى «سِلَاحٍ» فِي ظَهْرِ الأُمَّةِ!
كَفَى! لَنْ تُفْلِتُوا هَذِهِ المَرَّةَ.. فَقَدْ سَقَطَ «قِنَاعُ حَسَنِ البَنَّا» عَنْ وُجُوهِ أَحْفَادِهِ، وَبَانَ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الأَسْوَدِ.. «دَوْرُكُمُ المُشَبُوهُ صَارَ كَالغَيْمَةِ القَذِرَةِ.. تَحْمِلُ الرَّعْدَ وَلَكِنَّهَا تُهْزَمُ بِنُورِ الشَّمْسِ!» مِصْرُ تَسِيرُ.. فَاصْمُتُوا.
يَا سَادَةَ.. إِنَّ فِلَسْطِينَ اليَوْمَ لَيْسَتْ مَجَرَّدَ أَرْضٍ، بَلْ هِيَ مِرْآةُ ضَمِيرِ الأُمَّةِ.. مِصْرُ، بِجُذُورِهَا الضَّارِبَةِ فِي عُمْقِ التَّارِيخِ، وَبِفِعْلِهَا الَّذِي حَوَّلَ العَقِيدَةَ إِلَى قَوَافِلَ إِغَاثَةٍ وَمُسْتَشْفَيَاتٍ وَمُفَاوَضَاتٍ، تَقُولُ لِلْعَالَمِ:
«التَّضَامُنُ لَيْسَ بُكَاءً عَلَى أَطْلَالِ المَاضِي، بَلْ هُوَ بِنَاءٌ لِطَرِيقِ المُسْتَقْبَلِ. كُلُّ طَنٍّ مِنَ الدَّقِيقِ، كُلُّ ضِمَادَةٍ عَلَى جُرْحٍ، كُلُّ جَوْلَةِ مُفَاوَضَاتٍ – هِيَ لَبِنَةٌ فِي صَرْحِ الصُّمُودِ. وَغَزَّةُ سَتَظَلُّ شَاهِدًا: أَنَّ الحَقَّ حِينَ تَسْنَدُهُ إِرَادَةٌ لَا تَنْكَسِرُ، وَعَمَلٌ لَا يَمَلُّ، يَصِيرُ قَدَرًا لَا يُرَدُّ.»
وَبِكُلِّ مَوْضُوعِيَّةٍ أَقُولُ.. فِي اللَّيَالِي الدَّامِيَةِ – بِبَرَاعَةٍ وَحِكْمَةٍ أَدَارَتْ مِصْرُ مَسْرَحَ المُسْتَحِيلِ، فَهَيْهَاتَ أَنْ تُمْسِكَ خَيْطَ النُّورِ فِي عَتْمَةِ المِتْاهَةِ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَيْدٍ:
يَدُ السِّيَاسِيِّ الَّذِي يُحَاوِرُ الأَعَاصِيرَ بِلِسَانِ العَقِيدَةِ.
يَدُ الأَمْنِيِّ الَّذِي يَحْرُسُ جِسْرَ الحَيَاةِ كَالنَّسْرِ الصَّنْدِيدِ.
يَدُ اللُّوجِسْتِيِّ الَّذِي يُحَرِّكُ خُيُوطَ الإِغَاثَةِ بِإِبْرَةِ السَّاعَةِ.
نَعَمْ.. لَقَدْ حَوَّلَتِ الإِدَارَةُ المِصْرِيَّةُ – بِبُرُودَةِ عَقْلٍ وَحَرَارَةِ قَلْبٍ – المَبْدَأَ المُجَرَّدَ إِلَى آلَةٍ جَبَّارَةٍ تَدُورُ كَسَاعَةِ الزَّمَنِ القَدِيمَةِ:
فِي القَاهِرَةِ: غُرَفُ العَمَلِيَّاتِ تَنْسِجُ خَرِيطَةَ المَعْرَكَةِ لِتَتَجَنَّبَ غَزَّةَ الأَنِينَ.
وَعَلَى الحُدُودِ: رِجَالُ الأَمْنِ يُحَوِّلُونَ صَفَّارَاتِ الْإِنْذَارِ إِلَى مُوسِيقَى لِمُرُورِ الشَّاحِنَاتِ.. أَتَعْرِفُ سِرَّ المَعْجِزَةِ؟!
إِنَّهُ التَّمَازُجُ العَجِيبُ بَيْنَ عَقْلِ الحُكَمَاءِ.. وَلِمَ لَا؟! فَالإِدَارَةُ السِّيَاسِيَّةُ المِصْرِيَّةُ لَدَيْهَا:
إِدَارَةٌ سِيَاسِيَّةٌ تَنْسِجُ شَبَكَةَ المُفَاوَضَاتِ بِخَيْطٍ مِنْ حَرِيرٍ وَفُولَاذٍ.
وَفَرِيقٌ أَمْنِيٌّ، يَبْنِي سُدُودًا مِنَ اليَقَظَةِ أَمَامَ سَيْلِ المُؤَامَرَاتِ.
يَا سَادَةَ.. مَنْ يَعْرِفُ أَنْقَاضَ المَأْسَاةِ جَيِّدًا، يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْنِيَ مِنْ حِجَارَتِهَا جِسْرًا لِلْخَلَاصِ، فَمِصْرُ تُخَيطُ جُرْحَ فِلَسْطِينَ كَمَا تُخَيطُ تَمَزُّقَ الأُمَّةِ، وَقَدَّمَتْ إِنْسَانِيَّةً عَظِيمَةً – حَيْثُ يَنْتَصِرُ الضَّمِيرُ عَلَى المَوْتِ، لِيَعْلُوَ صَوْتُ الحَيَاةِ مِنْ خَلْفِ سِتَارِ صَمْتِ العَالَمِ! .. فَهَلْ مِنْ مُجِيبٍ؟!
التعليقات مغلقة.