العلاج النفسي بالموسيقى والعطور في مشافي الدولة العثمانية. بقلم _ د.سونيا محمد سعيد البنا ..مدرس اللغة التركية وآدابها-كلية الآداب- جامعة حلوان
تأثر العثمانيون بالحضارة الإسلامية في شتى المجالات. ففي مجال الطب تعلم الأتراك العثمانيون من أشهر أطباء الحضارة الإسلامية ، وإذا تحدثنا عن العلاج النفسي بالموسيقى نجده كان في الحضارة الإسلامية ولم يكن من اختراع العثمانيين فقد كتب إبن سينا والفرابي وغيرهم في هذا العلاج الفعال ، لكن بطبيعة الحال لابد وأن يكون قد حدث تطوراً في هذا المجال في عهد الدولة العثمانية .
ويرجع د.كرافت ابينج أحد علماء علم النفس الكبار في القرن العشرين أن أوربا عرفت علاج الاختلال العقلي من الأطباء الأتراك. فقد شيد الأتراك في الدولة العثمانية مشافٍ خاصة لعلاج هؤلاء المرضى والذين لم يجدوا في أوربا رعاية من مجتمعهم بل كان يتم تعذيبهم أو حرقهم في بعض الأحيان على اعتبار أن روحهم لابد أن تتخلص من الشيطان الذي بداخلهم.
ولما جاء د/جون هيوارد إلى إستانبول فى عام 1788م ،و زار مشافي الأمراض العقلية وكتب فى تقريره إلى إنجلترا :”إن هذه الأماكن نموذج يُحتذى به، وجديرة بالمدح والثناء ” .
وعلى حد زعمه –فإن العثمانيين قد تعلموا من السلاجقة تأسيس المشافي من أجل علاج المختلين عقلياً . وكانت تُعرف بـ” بيمار خانه ، ثم تطورت هذه الكلمة تدريجياً في لغة الشعب وأصبحت: “تيمار خانه ” .
ومع ذلك ظل المختلون عقلياً ــ في فرنسا ــ يُعاملون معاملة سيئة أسوأ من معاملة الحيوانات والمجرمين في مشافي الأمراض العقلية فى عام 1818م .و ظل الاوربيون حتى القرن السادس عشر لا يعرفون أسباب الجنون أو المرض النفسي.
وهنا تجدر بنا الإشارة إلى أن علاج االمرضى النفسيين بالموسيقى بشكل تطبيقى في أمريكا قد بدأ في عام 1956م. مما يعني أن العثمانيين قد سبقوا الغرب في هذا المجال بمئات السنين.
قام العثمانيون بعلاج المرضى النفسانيين برائحة الزهور والموسيقى،وكانت الفرقة الموسيقية السلطانية تعمل أياماً معينة من الأسبوع في “البيمارخانه ” أو المشفى ،كما كانت الفرقة الموسيقية تقدم حفلات موسيقية بآلالات متعددة ،و يغنون في المشافي .
وكتب الرحالة العثماني الشهير “أوليا ﭽلبي” في كتابه “سياحت نامه” يحكي عن جولاته في استانبول فيقول عما شاهده في أحد المشافي للأمراض العقلية منذ عهد السلطان محمد الفاتح :”كان فيها سبعون حجرة، ومائتا عامل، والأطباء ورئيسهم “الحكيم باشى”أو رئيس الأطباء .
و كان المرضى يحظون بالرعاية والاهتمام ، ويتلقون معاملة جيدة ،حيث يحصلون على الطعام الجيد الوفير من لحوم الطيور.كما كان للمرضى ملابس خاصة للنوم من الديباج المطرز. كل ذلك وأكثركان ثمرة ريع أوقاف تلك المشافي الخيرية . كما كان يُعين في هذه المشافي “خواننده”أو المطرب وسازنده”وهو عازف آلة الساز الوترية (الرباب)،من أجل التخلص من المرض النفسي ، كما كان يوجد أبنية خاصة بالنساء وأبنية خاصة لغير المسلمين.
ووفقاً لما ذكره الرحالة “أوليا ﭽلبي” في “سياحت نامه” من أن المرضى ينسون اضراباتهم بالنغمات الموسيقية ويشعرون بحالة من الهدوء .وفي مؤلف آخر يتحدث عن عزف ألحان مختلفة من أجل المرضى والمهمومين أو المجانين المكبلين بالقيود وإن لم تؤثر فيهم هذه النغمات كانوا يغيرون للمرضى المقامات الموسيقة لتتحسن حالاتهم.
كما ذكر أيضا “أوليا ﭽلبي” عن آلات موسيقية أخرى استخدمت للعزف في هذه المشافي وهي: العود و الناي والكمان و الهارب والسنطور والدف. واستخدم العازفون مقامات موسيقية معينة وهي: “نوا ” ، و”راست” ،و”دوگاه ” ،و”سيگاه ” ،و”ﭽرگاه ” ، و”صوزناق” . وكانت المقامات البسيطة مثل:” الزنغوله ” ، و”البوسلك ” ، و”الراست ” تؤدي إلى نتيجة جيدة للمرضى.
وعلاوة على العلاج بالموسيقى كان يتم التداوي بمنظرالزهور والورود وعطورها. فاستخدموا نبات “السنبل” ، و”التوليب”،و”الريحان” ،و”القرنفل” ،و”المنثور” ،و”النسرين”، و “الشببوي” و”المسك الرومي” ونبات “عنق الجمل” و”السيمو زرين”.
وأيضاً نوعية الأغذية ساعدت في نظام العلاج النفسي خاصة لحوم الطيور ، التي كان يأمر الأطباء بطبخها لتقديمها إلى المرضى ، والتي كان لها تأثير جيد عليهم مثل لحوم طير الحجل و الدراج و الديك البري أو التُدرُج والحمام والحمام البري والأوز والبط والبلبل. كما كان الطبيب هو من يأمر بوضع البهارات أو عدم وضعها وغيرها من الأمور .
ومما لفت نظري أن الأتراك لا يأكلون لحم الحمام وذلك لمعتقدات دينية بسبب الحمامة التي رقدت أمام غار حراء في أثناء هجرة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة . لذلك بحثت عن فوائد لحم الحمام ووجدت أنه يحتوي على فيتامينات ومعادن مهمة وأهم ميزة أنه يجعل الفرد يشعر بالراحة والسعادة المطلقة، وذلك لأنه يحفز الجسم على إفراز هرمون السيروتينين، وهذا الهرمون يعّد من الهرمونات الضرورية المضادة للاكتئاب. كما يساعد أكل الحمام على تقليل مخاطر الإصابة بالصرع. ويحافظ على صحة الجهاز العصبي لذلك أرجح أن الأطباء عرفوا هذه الفوائد وبذلك تخطوا العادات والمعتقدات الدينية فكان يوصف لحمه لمن يعاني من حالة نفسانية سيئة.وذلك يدل أيضاً على أن اختيار الأطباء لبقية لحوم الطيور التي ذكرتها جميعها لها عامل أساسي لتحسين الحالة النفسية للمريض.
وهكذا تطورت هذه المشافى وظل الاهتمام بها من أولويات الدولة العثمانية.
التعليقات مغلقة.